فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا}.
تعرض هذه الحلقة السريعة من قصة موسى عليه السلام بعد قوله تعالى في هذه السورة: {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم} وكأنما ليقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لست بدعًا في هذا التلقي. فها هو ذا موسى يتلقى التكليف، وينادى ليحمل الرسالة إلى فرعون وقومه. وليس ما تلقاه من قومك بدعًا في التكذيب. فها هم أولاء قوم موسى تستيقن نفوسهم بآيات الله، ولكنهم يجحدون بها ظلمًا وعلوًا. {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} ولينتظر قومك عاقبة الجاحدين المكابرين!.
{إذ قال موسى لأهله إني آنست نارًا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون}.
وقد ذكر هذا الموقف في سورة طه. وهو في طريق عودته من أرض مدين إلى مصر، ومعه زوجه بنت شعيب عليه السلام. وقد ضل طريقه في ليلة مظلمة باردة. يدل على هذا قوله لأهله: {سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون} وكان ذلك إلى جانب الطور. وكانت النيران توقد في البرية فوق المرتفعات لهداية السالكين بالليل؛ فإذا جاءوها وجدوا القرى والدفء، أو وجدوا الدليل على الطريق.
{إِني آنست نارًا} فقد رآها على بعد، فشعر لها بالطمأنينة والأنس. وتوقع أن يجد عندها خبر الطريق، أو أن يقبس منها ما يستدفىء به أهله في قر الليل في الصحراء.
ومضى موسى عليه السلام إلى النار التي آنسها، ينشد خبرًا، فإذا هو يتلقى النداء الأسمى:
{فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين يا موسى إنه أنا الله العزيز الحيكم}.
إنه النداء الذي يتجاوب به الكون كله، وتتصل به العوالم والأفلاك؛ ويخشع له الوجود كله وترتعش له الضمائر والأرواح. النداء الذي تتصل فيه السماء بالأرض؛ وتتلقى الذرة الصغيرة دعوة خالقها الكبير؛ ويرتفع فيه الإنسان الفاني الضعيف إلى مقام المناجاة بفضل من الله.
{فلما جاءها نودي}. بهذا البناء للمجهول وهو معلوم ولكنه التوقير والإجلال والتعظيم للمنادي العظيم.
{نودي أن بورك من في النار ومن حولها}.
فمن ذا كان في النار؟ ومن ذا كان حولها؟ إنها على الأرجح لم تكن نارًا من هذه النار التي نوقدها. إنما كانت نارًا مصدرها الملأ الأعلى. نارًا أوقدتها الأرواح الطاهرة من ملائكة الله للهداية الكبرى. وتراءت كالنار وهذه الأرواح الطاهرة فيها. ومن ثم كان النداء: {أن بورك من في النار} إيذانًا بفيض من البركة العلوية على من في النار من الملائكة ومن حولها، وفيمن حولها موسى، وسجل الوجود كله هذه المنحة العليا. ومضت هذه البقعة في سجل الوجود مباركة مقدسة بتجلي ذي الجلال عليها، وإذنه لها بالبركة الكبرى.
وسجل الوجود كله بقية النداء والنجاء: {وسبحان الله رب العالمين يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم}.
نزه الله ذاته وأعلن ربوبيته للعالمين، وكشف لعبده أن الذي يناديه هو الله العزيز الحكيم. وارتفعت البشرية كلها في شخص موسى عليه السلام إلى ذلك الأفق الوضيء الكريم. ووجد موسى الخبر عند النار التي آنسها، ولكنه كان الخبر الهائل العظيم؛ ووجد القبس الدافئ، ولكنه كان القبس الذي يهدي إلى الصراط المستقيم.
وكان النداء للاصطفاء؛ ووراء الاصطفاء التكليف بحمل الرسالة إلى أكبر الطغاة في الأرض في ذلك الحين. ومن ثم جعل ربه يعده ويجهزه ويقويه:
{وألق عصاك}. باختصار هنا، حيث لا يذكر ذلك النجاء الطويل الذي في سورة طه. لأن العبرة المطلوبة هي عبرة النداء والتكليف.
{فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرًا ولم يعقب}.
فقد ألقى عصاه كما أمر؛ فإذا هي تدب وتسعى، وتتحرك حركة سريعة كحركة ذلك النوع الصغير السريع من الحيات {الجان}. وأدركت موسى عليه السلام طبيعته الانفعالية، وأخذته هزة المفاجأة التي لم تخطر له ببال، وجرى بعيدًا عن الحية دون أن يفكر في الرجوع! وهي حركة تبدو فيها دهشة المفاجأة العنيفة في مثل تلك الطبيعة الشديدة الانفعال.
ثم نودي موسى بالنداء العلوي المطمئن؛ وأعلن له عن طبيعة التكليف الذي سيلقاه:
{يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون}.
لا تخف. فأنت مكلف بالرسالة. والرسل لا يخافون في حضرة ربهم وهم يتلقون التكليف.
{إِلا من ظلم ثم بدل حسنًا بعد سوء فإني غفور رحيم}.
إنما يخاف الذين ظلموا. ذلك إلا أن يبدلوا حسنًا بعد سوء، ويدعوا الظلم إلى العدل؛ ويدعوا الشرك إلى الإيمان، ويدعوا الشر إلى الخير. فإن رحمتي واسعة وغفراني عظيم.
والآن وقد اطمأن موسى وقر، يجهزه ربه بالمعجزة الثانية، قبل أن يكشف له عن جهة الرسالة ووجهة التكليف:
{وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء}.
وكان هذا. وأدخل موسى يده في فتحة ثوبه وهي جيبه فخرجت بيضاء مشرقة لا عن مرض، ولكن عن معجزة. ووعده ربه أن يؤيده بتسع آيات من هذا النوع الذي شاهد منه اثنتين؛ وكشف له حينئذ عن وجهته التي من أجلها دعاه وجهزه ورعاه!.
{في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قومًا فاسقين}.
ولم يعدد هنا بقية هذه الآيات التسع، التي كشف عنها في سورة الأعراف. وهي سنون الجدب، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. لأن التركيز هنا على قوة الآيات لا على ماهيتها. وعلى وضوحها وجحود القوم لها:
{فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}.
{فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.
هذه الآيات الكثيرة العدد، الكاشفة عن الحق، حتى ليبصره كل من له عينان. ويصف هذه الآيات نفسها بأنها مبصرة، فهي تبصر الناس وتقودهم إلى الهدى. ومع هذا فقد قالوا عنها: إنها سحر مبين! قالوا ذلك لا عن اقتناع به، ولا عن شبهة فيه. إنما قالوه {ظلما وعلوا} وقد استيقنت نفوسهم أنها الحق الذي لا شبهة فيه: {وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ}. قالوا جحودا ومكابرة، لأنهم لا يريدون الإيمان، ولا يطلبون البرهان.
استعلاء على الحق وظلما له ولأنفسهم بهذا الاستعلاء الذميم.
وكذلك كان كبراء قريش يستقبلون القرآن، ويستيقنون أنه الحق، ولكنهم يجحدونه، ويجحدون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم إلى اللّه الواحد. ذلك أنهم كانوا يريدون الإبقاء على ديانتهم وعقائدهم، لما وراءها من أوضاع تسندهم، ومغانم تتوافد عليهم. وهي تقوم على تلك العقائد الباطلة، التي يحسون خطر الدعوة الإسلامية عليها، ويحسونها تتزلزل تحت أقدامهم، وترتج في ضمائرهم. ومطارق الحق المبين تدمغ الباطل الواهي المريب! وكذلك الحق لا يجحده الجاحدون لأنهم لا يعرفونه. بل لأنهم يعرفونه! يجحدونه وقد استيقنته نفوسهم، لأنهم يحسون الخطر فيه على وجودهم، أو الخطر على أوضاعهم، أو الخطر على مصالحهم ومغانمهم.
فيقفون في وجهه مكابرين، وهو واضح مبين.
{فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.
وعاقبة فرعون وقومه معروفة، كشف عنها القرآن في مواضع أخرى. إنما يشير إليها هنا هذه الإشارة، لعلها توقظ الغافلين من الجاحدين بالحق المكابرين فيه، إلى عاقبة فرعون وقومه قبل أن يأخذهم ما أخذ المفسدين. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا}.
أخرج الطستي عن ابن عباس. أن نافع بن الأزرق قال له: اخبرني عن قوله عز وجل: {بشهاب قبس} قال: شعلة من نار يقتبسون منه قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول طرفة:
هم عراني فبت أدفعه ** دون سهادي كشعلة القَبس

{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)}.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار} يعني تبارك وتعالى نفسه، كان نور رب العالمين في الشجرة {ومن حولها} يعني الملائكة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وابن مردويه عنه عن ابن عباس {نودي أن بورك من في النار ومن حولها} يقول: بوركت بالنار ناداه الله وهو في النور.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: كانت تلك النار نورًا {أن بورك من في النار ومن} حول النار.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس {أن بورك من في النار} قال: بوركت النار.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد. مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: في مصحف أبي بن كعب {بوركت النار ومن حولها} أما النار فيزعمون أنها نور رب العالمين {ومن حولها} الملائكة.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أنه كان يقرأ: {أن بوركت النار}.
وأخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب في الآية قال: النار: نور الرحمن {ومن حولها} موسى والملائكة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {بورك} قال: قدس.
وأخرج عبد بن حميد ومسلم وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور لو رفع الحجاب لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» ثم قرأ أبو عبيدة {أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين}.
{وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {فلما رآها تهتز كأنها جان} قال: حين تحوّلت حية تسعى.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {ولم يعقب يا موسى} قال: لم يرجع وفي قوله: {إلا من ظلم ثم بدل حسنًا بعد سوء} قال: ثم تاب من بعد ظلمه واساءته.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ولى مدبرًا} قال: فارًا {ولم يعقب} قال: لم يلتفت. وفي قوله: {لا يخاف لدي} قال: عندي وفي قوله: {إلا من ظلم} قال: إن الله لم يجز ظالمًا. ثم عاد الله بعائدته وبرحمته فقال: {ثم بدل حسنًا بعد سوء} أي فعمل عملًا صالحًا بعد عمل سيء عمله {فإني غفور رحيم}.
وأخرج ابن المنذر عن ميمون قال: إن الله قال لموسى {إنه لا يخاف لديَّ المرسلون إلا من ظلم} وليس للظالم عندي أمان حتى يتوب.
وأخرج سعيد بن منصور عن زيد بن أسلم أنه قرأ: {إلا من ظلم}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت على موسى جبة لا تبلغ مرفقيه فقال له {أدخل يدك في جيبك} فادخلها.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مقسم قال: إنما قيل {أدخل يدك في جيبك} لأنه لم يكن لها كم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كانت عليه مدرعة إلى بعض يده، ولو كان لها كم أمره أن يدخل يده في كمه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {وأدخل يدك في جيبك} قال: جيب القميص.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة {وأدخل يدك في جيبك} قال: في جيب قميصك {تخرج بيضاء من غير سوء} قال: من غير برص {في تسع آيات} قال: يقول هاتان الآيتان: يد موسى، وعصاه {في تسع آيات} وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: التسع آيات: يد موسى، وعصاه، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين في بواديهم ومواشيهم، ونقص من الثمرات في أمصارهم. وفي قوله: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة} قال: بينة {وجحدوا بها} قال: كذبت القوم بآيات الله بعدما استيقنتها أنفسهم أنها حق. والجحود لا يكون إلا من بعد المعرفة.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {ظلمًا وعلوًا} قال: تعظمًا واستكبارًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا} قال: تكبروا وقد استيقنتها أنفسهم؛ وهذا من التقديم والتأخير.
وأخرج عبد بن حميد عن الأعمش أنه قرأ: {ظلمًا وعليًا} وقرأ عاصم {وعلوًا} برفع العين واللام. اهـ.